الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين، فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم} قوله تعالى}وفي موسى}أي وتركنا أيضا في قصة موسى آية. وقال الفراء: هو معطوف على قوله}وفي الأرض آيات}}وفي موسى}. }إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين}أي بحجة بينة وهي العصا. وقيل: أي بالمعجزات من العصا وغيرها. }فتولى بركنه}أي فرعون أعرض عن الإيمان }بركنه}أي بمجموعة وأجناده؛ قال ابن زيد. وهو معنى قول مجاهد، ومنه قوله وقيل: بنفسه. وقال الأخفش: بجانبه؛ كقوله تعالى وقد توضع }أو}بمعنى الواو؛ كقوله تعالى {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} قوله تعالى}وفي عاد}أي وتركنا في عاد آية لمن تأمل. }إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم}وهي التي لا تلقح سحابا ولا شجرا، ولا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة؛ ومنه امرأة عقيم لا تحمل ولا تلد. ثم قيل: هي الجنوب. قوله تعالى}ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم}أي كالشيء الهشيم؛ يقال للنبت إذا يبس وتفتت: رميم وهشيم. قال ابن عباس: كالشيء الهالك البالي؛ وقاله مجاهد: ومنه قول الشاعر: وقال قتادة: إنه الذي ديس من يابس النبات. وقال أبو العالية والسدي: كالتراب المدقوق. قطرب: الرميم الرماد. وقال يمان: ما رمته الماشية من الكلأ بمرمتها. ويقال للشفة المرمة والمقمة بالكسر، والمرمة بالفتح لغة فيه. وأصل الكلمة من رم العظم إذا بلي؛ تقول منه: رم العظم يرم بالكسر رمة فهو رميم، قال الشاعر: والرمة بالكسر العظام البالية والجمع رمم ورمام. ونظير هذه الآية {وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين، فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين} قوله تعالى}وفي ثمود}أي وفيهم أيضا عبرة وآية حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا }حتى حين}أي إلى وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام كما في هود {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين} قوله تعالى}وقوم نوح من قبل}قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو }وقوم نوح}بالخفض؛ أي وفي قوم نوج آية أيضا. الباقون بالنصب على معنى وأهلكنا قوم نوج، أو يكون معطوفا على الهاء والميم في }أخذتهم}أو الهاء في }أخذناه}أي فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوج، أو {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون، والأرض فرشناها فنعم الماهدون، ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} قوله تعالى}والسماء بنيناها بأيد}لما بين هذه الآيات قال: وفي السماء آيات وعبر تدل على أن الصانع قادر على الكمال، فعطف أمر السماء على قصة قوم نوح لأنهما آيتان. ومعنى }بأيد}أي بقوة وقدرة. عن ابن عباس وغيره. }وإنا لموسعون}قال ابن عباس: لقادرون. وقيل: أي وإنا لذو سعة، وبخلقها وخلق غيرها لا يضيق علينا شيء نريده. وقيل: أي وإنا لموسعون الرزق على خلقنا. عن ابن عباس أيضا. الحسن: وإنا لمطيقون. وعنه أيضا: وإنا لموسعون الرزق بالمطر. وقال الضحاك: أغنيناكم؛ دليله {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين، كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به بل هم قوم طاغون، فتول عنهم فما أنت بملوم، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} قوله تعالى}ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}لما تقدم ما جرى من تكذيب أممهم لأنبيائهم وإهلاكهم؛ لذلك قال الله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم يا محمد؛ أي قل لقومك}ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}أي فروا من معاصيه إلى طاعته. وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم. وعنه فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان}ففروا إلى الله}اخرجوا إلى مكة. وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه. وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم. وقال أيضا: فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. وقال سهل بن عبدالله: فروا مما سوى الله إلى الله. }إني لكم منه نذير مبين}أي أنذركم عقابه على الكفر والمعصية. قوله تعالى}ولا تجعلوا مع الله إلها آخر}أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا للناس وهو النذير. وقيل: هو خطاب من الله للخلق. }إني لكم منه}أي من محمد وسيوفه }نذير مبين}أي أنذركم بأسه وسيفه إن أشركتم بي؛ قاله ابن عباس. قوله تعالى}كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول}هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون، كذب من قبلهم وقالوا مثل قولهم. والكاف من }كذلك}يجوز أن تكون نصبا على تقدير أنذركم إنذارا كإنذار من الرسل الذين أنذروا قومهم، أو رفعا على تقدير الأمر كذلك أي كالأول. والأول تخويف لمن عصاه من الموحدين، والثاني لمن أشرك به من الملحدين. والتمام على قوله}كذلك}عن يعقوب وغيره. }أتواصوا به}أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب. وتواطؤوا عليه؛ والألف للتوبيخ والتعجب. }بل هم قوم طاغون}أي لم يوص بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر. }فتول عنهم}أي أعرض عنهم وأصفح عنهم }فما أنت بملوم}عند الله لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نسخ هذا بقوله تعالى }وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}وقيل: نسخ بآية السيف. والأول قول الضحاك؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم بالموعظة. وقال مجاهد}فتول عنهم}فأعرض عنهم }فما أنت بملوم}أي ليس يلومك ربك على تقصير كان منك }وذكر}أي بالعظة فإن العظة }تنفع المؤمنين}. قتادة}وذكر}بالقرآن }فإن الذكرى}به}تنفع المؤمنين}. وقيل: ذكرهم بالعقوبة وأيام الله. وخص المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بها {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون، فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون} قوله تعالى}وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص. والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص على القطع؛ لأن المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة، وقد قال الله تعالى والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا. وكذلك الاعتباد. والعبادة الطاعة، والتعبد التنسك. فمعنى }ليعبدون}ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا. }ما أريد منهم من رزق}}من}صلة أي رزقا بل أنا الرزاق والمعطي. وقال ابن عباس وأبو الجوزاء: أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم }إن الله هو الرزاق}وقرأ ابن محيصن وغيره }الرازق}. }ذو القوة المتين}أي الشديد القوي. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والنخعي }المتين}بالجر على النعت للقوة. الباقون بالرفع على النعت لـ }الرزاق}أو }ذو}من قوله}ذو القوة}أو يكون خبر ابتداء محذوف؛ أو يكون نعتا لاسم إن على الموضع، أو خبرا بعد خبر. قال الفراء: كان حقه المتينة فذكره لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل؛ يقال: حبل متين. وأنشد الفراء: من ريطة واليمنة المعصبا فذكر المعصب؛ لأن اليمنة صنف من الثياب؛ ومن هذا الباب قوله تعالى قوله تعالى}فإن للذين ظلموا}أي كفروا من أهل مكة }ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم}أي نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة. وقال ابن الأعرابي: يقال يوم ذنوب أي طويل الشر لا ينقضي. وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الأنصباء فقيل للذنوب نصيب من هذا؛ قال الراجز: وقال علقمة: وقال آخر: الجوهري: والذنوب الفرس الطويل الذنب، والذنوب النصيب، والذنوب لحم أسفل المتن، والذنوب الدلو الملأى ماء. وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من الملء يؤنث ويذكر، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب، والجمع في أدنى العدد أذنبة والكثير ذنائب، مثل قلوص وقلائص. }فلا يستعجلون}أي فلا يستعجلون نزول العذاب بهم؛ لأنهم قالوا: يا محمد
|